العلاج المعرفي

Ex31 أكتوبر 2025

العلاج المعرفي هو ثوره صامتة في علم النفس، ثورة لم تُطلق رصاصة واحدة، لكنها غّيرت الطريقة التي نفكر بها عن أنفسنا والعالم. إنه التحوّل من السؤال “لماذا أنا هكذا” إلى السؤال “بماذا أفكر لأصبح هكذا؟” فهو لا يغوص في طفولتك بحثًا عن الشبح الأول الذي أخافك، بل يجلس أمامك ليفتش معك في أفكارك التي تُعيد إنتاج خوفك كل يوم، وكأنها آلة تشتغل دون توقف.

آرون بيك ، مؤسس هذا الاتجاه ، كان في الأصل تلميذاً للمدرسة التحليلية الفرويدية ، لكنه تمرد عليها حين لاحظ أن لمرضى لا يتحسنون رغم “فهمهم ” لماضيهم . الفهم لا يغيّر شيئًا إذا بقي في الماضي، بينما السلوك لا ينتظر الماضي ليبرر نفسه. بل التفسير الذي نعطيه له.

حين تفشل في علاقة، قد تقول “أنا لا أستحق الحب”، فينهار عالمك. أو تقول “تجربة لم تنجح”، فتكمل طريقك.

نفس الحدث، نفس الشخص، لكن فكرته تغيّرت، فانعكست على شعوره وسلوكه.

هنا جوهر العلاج المعرفي: أن الفكرة هي الجذر، والمشاعر ليست سوى ظلّها.

يؤمن بيك أن الإنسان ليس ضحية الواقع، بل ضحية تفسيره للواقع.

وأننا نعيش داخل قصصِ نكتبها بأنفسنا كل يوم، لكننا ننسى أننا من كتبناها، فنصدقها كأنها حقيقة مطلقة.

في العلاج المعرفي، لا يُطلب من المريض أن “يتفاءل”، فذلك سذاجة فكرية، بل يُطلب منه أن يختبر صحة أفكاره.

أن يسأل: هل هذا الاعتقاد واقعي؟ هل أملك دليلاً عليه؟ هل يمكن أن يكون تفسيرًا آخر ممكنًا؟

هذه الأسئلة الثلاثة، رغم بساطتها، قادرة على زعزعة أكثر البُنى النفسية صلابة.

إن العلاج المعرفي لا يجمّل الحقيقة، بل يُعرِّيها. فهو يقول لك بصراحة: “مشاعرك ليست مقياسًا للواقع”

قد تشعر بأن الجميع يكرهونك، لكن الشعور لا يعني التفكير الثنائي _ الأبيض أو الأسود _ هو فخٌّ معرفي، لا حقيقة.

هكذا يتحول العلاج إلى تمرين دائم على رؤية الواقع كما هو، لا كما تُملِيه أفكارك المشوهَة.

في مجتمعاتنا، حيث تُقدّس الدراما ويُهمل التفكير النقدي، يصبح العلاج المعرفي ثورة ثقافية قبل أن يكون علاجًا.

فهو يعلّمك ألا تصدّق كل ما يدور في رأسك، وأن تشكّ في أفكارك كما تشك في الأخبار المزيفة.

أن تفهم أن عدوك ليس العالم، بل العدسة التي ترى العالم من خلالها.

يقول بيك: “حين تغيّر أفكارك، لا يتغيّر العالم، لكنك ترى عالًما آخر.”

ولعلّ في هذا القول خلاصًا بسيطًا من عبء التعقيد: أن ما نحمله في عقولنا هو الذي يصنع السماء أو الجحيم الذي نعيش فيه.

.

.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.